الأربعاء، 17 نوفمبر 2010

حين يكون الموت هو الأمل الوحيد في تغيير الوضع للأفضل !


تحقيق : سارة درويش ، محمد سيف 
تصوير رانيا علي
 
جدار واحد يفصل بين حديقة الأندلس ، ملتقى العشاق والأحلام الوردية .. وبين الحديقة المحيطة بدار السعادة ، ملتقى الألم والوحدة والمرض ، تجلس فتاة في حديقة الأندلس ، وتنتظر أن يأتي حبيبها حاملاً وردة أو هدية .. وعلى بعد خطوات منها ، تجلس أم عجوز وحيدة تنتظر أن يأتيها الموت عله يضع حداً لما تعانيه من قسوة الأحبة وإهمالهم !
قضينا يومين في دار السعادة "!!" للمسنين نتنقل من غرفة إلى أخرى ، ومن مأساة إلى أخرى ، طرقنا أبواب فاستجاب قاطنيها وأبواب أخرى أغلقوها في وجوهنا بعنف قبل أن يعرفوا حتى من نكون ، لأنهم ملوا الشعور بأنهم مجرد عينة في بحث نفسي أو طبي ، والشعور بأنهم " فرجة " أدمى كرامتهم ، للحظات شعرت بأني قاسية جداً لأني أضعهم في هذا  الموقف ، وأجدد عليهم أحزانهم بالبوح  و شعرت من نظرتهم المنكسرة للقلم والورقة في يدي بأني أرتكب في حقهم جرماً .. ولكن الشيء الوحيد الذي أجبرني على المضي قدماً في التحقيق هو أني قررت أن أقتحم بصرختهم آذان الناس ، لعل هذا يساعدهم أو على الأقل يجنب غيرهم ذات المصير .

في اللحظة التي قررنا فيها أن نزور دار للمسنين ، لنستمع لأهالينا من كبار السن هناك  ،  ونكون صوتاً لهم ، يخبر الناس عن كل ما يعانونه ويشعرون به من آلام المرض والوحدة والوَحشَة ، وتوقعنا أن نرى مآسٍ تفطر القلب حزناً ، توقعنا أن نرى في عيونهم السخط على أبنائهم الذين ساقوا بهم إلى هذا المكان ، توقعنا أن يحكوا لنا عن مشكلات أسرية انتهت  بهم في هذا المكان ، توقعنا أن أغلبهم يعاني الفقر لذا وصل لهذا المكان .. وتوقعنا أيضاً أنهم على الرغم من الغربة والأسى والحزن يجدوا الرعاية في هذا المكان ، إلا أن كل ما رأيناه خالف توقعاتنا تماماً .

-         زار كل دول العالم وانتهى به المطاف في دار للمسنين
-         " عشت في الظلام 18 يوماً "

تعالوا معي نطرق  باب الحاج فاروق ، المهندس بالري سابقاً ، الذي رحب بنا كثيراً  و تعارفنا سريعاً فهو شخص ودود جداً ، على الرغم من أن الزمن فعل بصحته الأفاعيل إلا إنه لم ينل من قوة شخصيته ونظرته شيئاً ، ترددنا كثيراً قبل أن نطرق باب جراحه ونسأله عن سبب إقامته بدار للمسنين وتوقعنا أن في الحكاية ابن جاحد ، أو زوجة ابن متسلطة أو ابنة ضعيفة الشخصية استجابت لضغط زوجها وطردت الأب إلا أن الحاج فاروق فاجئنا بأنه لم يتزوج أبداً !
تعالوا بنا نسمع حكاية عم فاروق منه شخصياً : " ولدتُ في القاهرة ، أنا الابن الأكبر لأسرة مكونة من خمسة أفراد ، أبي وأمي وأخ يصغرني بسبع سنوات وأخت تصغرني وتصغره ، وكان أبي قاسي جداً في معاملته لأمي ولنا ، ولم أحب هذا أبداً ، مرت الأيام والسنين وتخرجت وعملت مهندساً للري بدمنهور وكان راتبي خمسون قرشاً في اليوم وحين منحنا جمال عبد الناصر علاوة بعد سنوات أصبح راتبي خمسة وخمسون قرشاً ، خمسة خمسون قرشاً أسافر منها إلى القاهرة وأنفق على نفسي لهذا قررت أن أعيش مع أمي وأعوضها عن قسوة أبي ، و قررت ألا أتزوج  لأني لا أملك ما يجعلني أعيش حياة كريمة أنا وزوجتي وأولادي فلماذا أنجبهم إذا كنت غير قادر على إسعادهم ؟ "

لمعت عينا الحاج فاروق وانتعشت روحه وهو يحكي لنا عن البلاد التي زارها  : " أنا أعشق السفر كلما رزقني الله بأموال أسافر بها  ، لم أكف عن السفر إلا بسبب مرضي ، زرت العراق والسودان والولايات المتحدة الأمريكية ودول أجنبية كثيرة وكنت على وشك الزواج من مليونيرة أمريكية تعرفتُ عليها في الأقصر ودعتني لزيارة بلدها ، فذهبت وقضيت ثلاثة شهور هناك ، وأعجبتني ففكرت في الزواج منها والإقامة هناك والعمل ، وبدأت فعلاً في تدبير هذا الموضوع لكني كنت على مشارف الأربعينيات وهناك يحيلون الموظفين على المعاش عند سن الأربعين ولم أفكر في العمل في غير وظيفة رسمية فعدت إلى مصر وألغيت الفكرة "

انطفأ بريق عينا الحاج فاروق وسكن الأسى كل ملامحه وهو يتنهد قائلاً : " طفت بلاد العالم كلها وينتهي بي الحال هنا ؟! في دار مسنين ! "

سألت الحاج فاروق عن أسرته ، أمه وأخوته فقال في أسى :" أمي أحب مخلوق لي في الدنيا توفيت منذ عشرين سنة ، ومن يومها وأنا وحيد ، فأخي  كان بالطبع مشغولاً بحياته وعمله وأسرته ، أنجب فتاة وحيدة وتوفي منذ أربع سنوات تقريباً  ، وترك ثروة كبيرة لزوجته وابنته ، ونتيجة طمع زوج الابنة في إرثها و إصراره على أن تتنازل له عنها طلبت الطلاق وعاشت مع أمها وطفليها .
وأختي أيضاً توفيت منذ سنوات ولها ابنة وحيدة تعيش في القاهرة . "

سألنا الحاج فاروق : من اقترح عليك الإقامة في بيت للمسنين ولماذا هنا في طنطا وأنت أصلاً قاهري ؟

فقال :  " هذه ثالث دار مسنين أقيم فيها ، أقمت في البداية في دار للمسنين بمصر الجديدة ،  كانت تكلفني 2000 جنيه شهرياً ، لكنها كانت آية في النظافة والنظام وحسن المعاملة ، وهي أفضل دار أقمت فيها على الإطلاق ، ولكنني تركتها لأن صاحبة الدار كلمتني بطريقة لم تعجبني في مرة فقررت ألا أقيم بالدار يوماً واحداً .

وانتقلت لدار مسنين أخرى بمدينة نصر ، كانت جيدة ولكنها لم تكن بنفس مستوى الدار الأولى ، و كانت تكلفني 1000 جنيه شهرياً ولكنني اضطررت لتركها لأن معاشي لا يكفي لسداد إيجار الدار وجئت هنا في هذه الدار كي أكون قريباً من ابنة أخي ، كي تساعدني وفي نفس الوقت ليكون بجانبها رجل يساندها أمام طليقها "

-         وهل تزورك ابنة أخيك ؟

قال بأسى : " بتيجي كل يوم جمعة خمس دقايق وتمشي وهي مستعجلة "

-         و هل تشعر بالراحة في إقامتك هنا   ؟

" طبعاً لأ ، الدار هنا سيئة جداً ، الطعام سيء جداً ، والخدمات سيئة .. تخيلوا  : " لمبة " غرفتي كانت محروقة ، وأبلغت المشرفة ليتم تغييرها ولا حياة فيمن تنادي عشت 18 يوماً في الظلام وفي النهاية اشتريت أنا الـ " لمبة " وقمت بتركيبها !
و لا يوجد طبيب في الدار ، وزجاج الشرفة لا ينغلق منذ ثلاثة شهور و في الليل يدخل لي برداً يؤلم عظامي وشكوت للإدارة ولا استجابة !
والعاملات تسيء معاملتنا إذا لم نمنحهم نقود وأنا أرفض هذا ، أنا أفضل أن تطلب منا إدارة الدار مبلغاً أكبر وتعطي العاملات راتباً أكبر ، لكن هذا الابتزاز أرفضه لأنه غير عادل ، حرام أن من يملك المال يحسنوا خدمته ومن لا يملك المال يسيئوا خدمته !  "

" أنا دخلت الدار دي على رجلي وكنت كويس من يوم ما جيت هنا صحتي في النازل لأن نفسيتي من سيء لأسوأ "

ودعنا الحاج فاروق ونحن لا نريد أن نفارقه ، للحديث معه متعة لا تنتهي ، رجل مثقف واعي وله آراء جديرة بالاهتمام في السياسة والمجتمع والحياة ، ودعناه وطلبنا منه أن يسمح لنا بزيارته مرة أخرى .

طرقنا باب الحاجة زينب وتحدثنا معها على عجالة لأنها كانت تريد أن تدرك صلاة العصر في الجماعة ، جذبتنا ابتسامتها الراضية التي لا تفارق وجهها ، ولم تفارقها الابتسامة حتى وهي تخبرنا عن ضيق الشرايين الذي يجعل تنفسها وحده معاناة ، وعن الغدة الدرقية التي ذهبت بصوتها في عملية وتركت لها بحة وتورم ، ولم تفارقها الابتسامة أيضاً وهي تخبرنا عن السكر و حصوات الكلى .

الحاجة زينب لم تشكو لنا من جحود الأبناء بل قالت لنا أنها هي التي اختارت أن تقيم في دار للمسنين كي لا تضايق أولادها وتتركهم على راحتهم في بيوتهم ، وكانت تقيم في شقة خاصة بها لكنها أغلقتها وأقامت في الدار هرباً من الوحدة وكي تجد من يقدم لها الطعام ويعتني بها .

ودعنا الحاجة زينب بسرعة لأنهم أعلنوا إقامة الصلاة ، وهي لا تفوت فرضاً في الجماعة منذ أقامت في الدار وهي تحمد الله وتشكره كثيراً لأنه  انعم عليها بنعمة السجود له .

تركنا الحاجة زينب وقد انتهى وقت الزيارات المسموح به ، فغادرنا الدار على وعد باستكمال الزيارة في اليوم الثاني ، في طريقنا للمغادرة لمحنا شاب يغادر غرفة مسرعاً وفي الغرفة عجوز تبكي بحرقة ، ورأينا سيدة تتابع التليفزيون بعين سارحة وحزن محفور في كل تجعيدة على وجهها ، وأخرى تنظر للاشيء وكأنها في عالم آخر ، وعجوز طلبت منا أن نصورها كما صورنا الأخريات فصورها زميلنا فدعت له وابتسمت في رضا .

خرجنا من الدار فرأينا محلات الملابس العصرية بألوان مبهجة و شباب وفتيات في الشارع بعضهم يضحك والبعض يتحدث بانفعال وصوت عالٍ عن نتائج مباراة المنتخب وآخرون يشكون من ثقل المناهج ولا أحد يفكر في هذا العالم الآخر الذي غادرناه منذ دقائق بكل ما فيه من هموم ومأسٍ يئن لحملها الجبال !


عدنا في اليوم التالي لمواصلة ما بدأناه ، وقابلنا مدير الدار الأستاذ مصطفى الشاذلي ، وسألناه عن شروط الإقامة بالدار ؟

فقال لنا : " يشترط فيمن يتقدم للإقامة بالدار أن يكون تعدى سن الستين ، وأن يستطيع خدمة نفسه ، وأن  يأتي به كفيل يكون مسئولاً عنه في حالة أن اشتد مرضه أو توفي ، و أن يدفع اشتراك الدار على حسب نوع الغرفة التي يريدها مزدوجة أم فردية .
وأن يسدد للدار ما يعادل إيجار ثلاث شهور كتأمين يسترده حين يغادر الدار أو يسترده الكفيل في حالة وفاته .  "

-         ومن لا يستطيع خدمة نفسه وليس له من يخدمه أو يقيم معه ؟ ماذا يفعل ؟

" له الله ، يذهب لمستشفى أو لأي مكان لكن في الدار هنا يجب أن يكون قادر على خدمة نفسه لأن العاملات هنا " بيقرفوا شوية " و من لا يقدر على خدمة نفسه والذهاب لدورة المياة بنفسه والاستحمام يتعبنا كثيراً ! . "

-         وماذا عن الخدمات الطبية للمسنين ، هل توفر الدار طبيب للمقيمين أم أنهم يعالجون على نفقتهم خارج الدار ؟

" الدار كانت متعاقدة مع طبيب وكان بيننا تعاون ولكنه انتهى بسبب عدم توفر الميزانية اللازمة ، فمنذ 2007 حتى الآن إعانة الدار من الشئون الإجتماعية متوقفة بسبب مشاكل في الإدارة تسبب فيها المدير السابق ، وقد قمنا بحل هذه المشاكل حالياً ولكن المشكلة مشكلة روتين واجراءات وإلى أن نتعاقد على تعاون جديد مع طبيب تقوم ممرضة بمتابعة المرضى والإشراف على علاجهم كما تأتي جمعيات طبية لزيارتنا ، و إذا كانت الحالة طارئة  نرسل المريض لمستشفى الجامعة . "

-         ما هو مصدر تمويل الدار ؟ هل هي حكومية أم مؤسسة خاصة ؟

" الدار إحدى المشروعات التابعة للجمعية العامة لرعاية المسنين بالغربية ، خاضعة لقانون الجمعيات الأهلية وتشرف عليها وزارة الشئون الإجتماعية ، تمنحنا الوزارة منحة إعانة سنوية دورية ولكنها متوقفة منذ عام 2007 كما قلت منذ دقائق ، ولذا تعتمد الدار فقط على الإشتراكات التي يدفعها المقيمين بالدار "

-         كم عدد المقيمين في الدار ؟

" مقيم بالدار 35 مسن ، والعدد الأقصى المسموح به هو 72 ولكن الدور الأول خير صالح للإقامة لأنه بحاجة لترميمات وتجديدات "

شكرنا الأستاذ مصطفى واصطحبتنا العاملة للدور الثالث كي نواصل ما بدأناه ، طرقنا باب الحاجة فردوس التي كانت تستعد لصلاة الضحى ، رحبت بنا وحذرتني  بحنو قبل أن أجلس من النمل الذي يملأ المكان ويكون أحياناً على الكرسي ، و بعد أن  فرغت من صلاة الضحى طلبت منا أن نساعدها في إعداد الشاي لأن الدواء يجعلها تشعر بالبرد ، بحثت عن مصدر للمياه كي أعد الشاي و لم نجد إلا صنبور " الحمام " لملئ الغلاية ، وسألتها كي أتأكد فأشارت لي أن أملأه من هناك فعلاً !
أعددت لها الشاي وفي انتظار غليان الماء تعرفنا على الحاجة فردوس كانت تعيش بقرية الدلجمون التابعة لمركز كفر الزيات  ، سيدة سمحة الوجه ابتسامتها لا تفارق وجهها ، ملامحها تنم عن جمال بائد ، عيون ملونة وشعر حريري وبشرة بيضاء فعل بهم الزمن الأفاعيل  ، سألناها عن عمرها فابتسمت وقالت : " ماعرفش يابنتي انا مادخلتش مدارس ولا بعرف أقرأ ، زمان كان تعليم البنات عيب وما يصحش " .

الحاجة فردوس  أم لولدين وبنت ، الابن الأكبر ظابط في الجيش بالإسكندرية ، والثاني موظف والبنت موظفة ببنك ، و ووالدهم كان مدير بنك ، تتكلم عنهم بكل رضا وحنان ، لم تشكو من جحودهم فهي اختارت أن تحيا هنا في دار للمسنين وتتركهم لحياتهم دون أن تكون عبئاً عليهم .
وكانت سعيدة جداً لأنهم سيأتون لتناول الغداء معها اليوم في الثانية ظهراً ، ولكنها كانت حزينة لأن الفتاة التي تأتي كي تساعدها على الإستحمام لم تأت منذ ثلاثة أيام وهي تريد أن تلقاهم بأحسن صورة ، ووجدت في زيارتنا الحل فأحضرت جلباب جميل نظيف وطلبت منا أن نساعدها على ارتداءه قبل أن نرحل ، طلبت منا طلبها  بخجل واعتذرت كثيراً " معلش يا بنتي هتعبكم بس ولادي جايين عارفين لو ما كانوش جايين ما كنتش لبست ولا عملت بس ولادي جايين النهاردة ، هيتغدوا معايا الساعة اثنين .. الثلاثة ربنا يحميهم " .

سألتنا عن موعد صلاة الظهر لأنها تريد أن تصلي قبل أن تستريح على سريرها حتى يأتي موعدها المنتظر مع أبنائها ، طلبنا منها أن تستريح حتى ميعاد الصلاة فرفضت قائلة : " ما بعرفش استريح إلا لما أصلي الظهر " ، اضطررنا لتركها كي نكمل جولتنا لأن وقت الزيارة المسموح به ضيق جداً وكادت قلوبنا أن تنخلع وهي تتوسل إلينا أن نجلس معها قليلاً ولو حتى حتى آذان الظهر .
لكن المشرفة طلبت منا أن نخرج كي لا نرهقها أكثر من هذا لأنها مريضة .

الحاجة فاطمة لم تنم منذ شهرين بسبب الكافيتريا ، وعندما اعترضت عوقبت بالنقل لغرفة أسوأ

تركنا الحاجة فردوس على وعدٍ بزيارتها ثانية في نفس اليوم لو تمكننا وفي يوم آخر لو لم يتسع وقتنا اليوم ، وطرقنا باب الحاجة فاطمة ..
ابتسمت حين أخبرتها أن اسمها هو اسم أمي ، وابتسمت لأننا سنقضي معها بعض الوقت لأنها تعاني مرارة الوحدة ولا يزورها أحد أبداً ، رفضت الحاجة فاطمة التصوير وقالت لزميلي " لأ ما تصورنيش أنا مش عايزة فضايح " .


الحاجة فاطمة أرملة ، زوجها كان يعمل في فراشة المناسبات الأفراح والمآتم ، وهي أم لأربعة أبناء ولدين وبنتين ، إحدى بناتها تعمل في السعودية ممرضة في إحدى المستشفيات والأخرى تعمل في القاهرة ولها ابن سائق تاكسي والآخر موظف .
سألتها عن قصتها فقالت بحزن :" زوجي توفى وأولادي صغار ، وكنت ربة منزل ، ليس لي أي مصدر للدخل ، ورغم ذلك ربيتهم وعلمتهم  بما كان يرزقني به الله من فاعلي الخير ومن مساعدات أمي ، و تعلمت ابنتي و التحقت بسلك التمريض وعملت في مستشفى الأمريكان وبدأت تساعدني في الإنفاق على اخوتها ثم سافرت السعودية لتعمل هناك ، وهناك أحبوها كثيراً لأنها تتقن عملها ووتفانى في خدمة الناس خاصة العجائز ، حتى لو لم يطلبوا منها المساعدة دون أن تنتظر مقابل ولا ترقية هي فقط تعمل هذا لوجه الله كي يرد الله ما تفعله لي وأجد من يساعدني ويحسن معاملتي "

" قالت لي كثيراً ادعِ لي يا أمي أن يقدرني الله وآخذك للحج ، وبالفعل زرت بيت الله الحرام في عمرة وحج ، و كنت أتمنى أن أعيش هناك دائماً وألا أفارقها أبداً لكن القانون السعودي لم يسمح بهذا ، وفارقتها بالدموع ورجعت ثانية إلى مصر ، عشت في شقتي مع ابني و زوجته معي في نفس الشقة  ، وطلب مني كثيراً أن أقنع اخوته بالتنازل عن الشقة لأنها مسكنه الوحيد  وعندما أموت سيطالبه أزواج أختيه بنصيبهم في الشقة وأخوه ، فلم يهن علي وطلبت من أولادي أن يتنازلوا له عن حقهم في الشقة ، فرفضوا وقالوا لي إنها بيتك وانتِ التي تجمعي شملنا كلنا فيها ، حتى مرضت في شهر يوليو مرض شديد وجاءوا لزيارتي فاستعطفتهم حتى تنازلوا عن الشقة لها ، و بالفعل تنازلوا عن الشقة له في شهر 7 ، وفي شهر 8 قال لي " انا مش عارف أخد راحتي في بيتي شوفي لك مكان تاني " !
لمعت في عينيها الدموع وقالت : " ماليش مكان أقعد فيه ولو في مكان مافيش حد يقعد معايا ، زمان كنت اقدر لكن دلوقتي لأ ، الخشونة في ركبتي بتخليني اقع لو مشيت وأنا تعبانة أوي هنا .. بقالي شهرين ما بنامش "
سألتها عن السبب فقالت " منذ شهرين افتتحوا كافيتريا بجوار الدار وتابعة له ، بمجرد أن يأتي الليل يجلس عليها الشباب يمزحون ويلعبون بصوت عال و صوت الأغاني عال جداً ويستمر هذا الحال لقرب الفجر و أنا غرفتي تطل عليها مباشرة ، شكوت أكثر من مرة وناديتهم وطلبت منهم أن يخفضوا الصوت فكان الرد " مش عاجبك اقعدي في أوضة تانية "  ، وفي مرة لم أتمالك أعصابي فدعوت عليهم وقلت " حسبي الله ونعم الوكيل " و لحظي العاثر كان مدير إدارة الدار جالس وسمعني فتمت معاقبتي بنقلي لغرفة أسوأ ، و أقرب للصوت ، لأني تجرأت وقلت حسبي الله ونعم الوكيل ! "

" حتى الصلاة يابنتي ما بعرفش اصليها ما بعرفش أقيم الليل بسببهم ، ولا بعرف أنام ليل و لا نهار ، و الخدمات كلها بالدار سيئة بداية من معاملة العاملات والمشرفات وحتى الطعام والشراب والإقامة  "

سألناها لماذا لا تقيم مع ابنتها الأخرى بدلاً من الإقامة هنا في الدار فقالت بحزن :" زوجها مش عايزني وهم على قدهم وماحدش فاضي لي يقعد معايا ولا يشوف طلباتي ، حتى لما روحت قعدت هناك شوية ما عرفتش ارتاح ولادها بيذاكروا وأصحابهم بيجوا يزوروهم ما عرفتش ارتاح "

وقالت لنا :" ابنتي التي تعمل في السعودية قالت لي ادعِ لي يا أمي أن يرزقني الله وأبني لكِ بيتاً ، وبنت بالفعل بيت لها وخصصت لي شقة منه ولكن لا أحد يعيش معي فيها ، لكن العام القادم سترسل ابنتها لتلتحق بالجامعة في مصر وتأخذني أسكن معها ، لكن  " مين يعيش لحد السنة الجاية ؟؟ "

دعونا الله أن يعينها ويبارك في عمرها ويشفيها ويعوضها عن كل ما عانته وتعانيه ، وتركناها وهي تدعو لنا لأن الكلام أزاح الكثير من الهم عن صدرها وصبرها ، دعت لنا ألا نرى مكروهاً ولا يوماً واحداً من أيامها في الدار .

غادرنا الحاجة فاطمة وهذه المرة لم نطرق أي باب ، لقد وجدنا الحاج سمير بانتظارنا على الباب ، في البداية شعرت ببعض الخوف حين وقف في طريقنا ورجانا أن نتحدث معه و ندخل غرفته ، لأن مدير الدار حدثنا عنه وعن أنه مريض نفسي و لا يمكن السيطرة عليه ، وقد يفعل أي شيء يؤذينا أو يقول كلام لا يصح أن أسمعه كفتاة ، ولكن لم يكن من مفر ، ودخلنا غرفة الحاج سمير .

-         المعلم المثالي على مستوى الجمهورية يعاني الهذيان وحيداً في دار المسنين

سمير حمدي ، أسطورة وحدوتة دار السعادة ، معظم من في الدار من العاملين والنزلاء  يعرفونه ويعرفون قصصه عن الجان وعن عمليات سرقة الأعضاء التي يتخيل أنها تجرى له في الدار ، رجل بشوش تعلو وجهه ابتسامة ساخرة مريرة ، قوي البنيان و حين تراه تظن أنه بصحة جيدة جداً جداً  ، تلمح على وجهه بقايا وسامة ، عيون خضراء ووجه أبيض مشرب بالحمرة ، مثقف جداً يحفظ الكثير من شعر نزار ويقرأ الجرائد بانتظام ، يجلس معظم الوقت في الشرفة أمامه المصحف يقرأ فيه ويشكو إلى الله حاله .

يتحدث كثيراً على عكس كل من قابلناهم في الدار ، يتحدث في كل الموضوعات ، في السياسة وفي المجتمع وفي أوضاع الدار وأوضاع البلد ويحكي عن النكسة وعن التعليم وعن الحب وعن الزواج .

استأذنه زميلي في تصويره فابتسم في مرارة وقال :" أخيراً لقيت حد يتصورني أصلاً ، صورني .. ياريت تصورني "

سألنا الحاج سمير عن حكايته فضحك بمرارة وقال  :" حكاياتي كثيرة ومثيرة جداً ومحزنة جداً جداً ، سأحكي لكم الحكاية من البداية ،
اسمي سمير حمدي ، ولدت في القاهرة وتربيت بين القاهرة والإسكندرية ، والدي كان ضابط شرطة وكان صارماً جداً معنا ، لي أخين وأختين ، بداخلي روح فنان وشاعر لذلك كنت دائماً الولد المتمرد الذي يخرج على قوانين الأسرة الصارمة ، فمثلاً في الثانوية العامة كنت أريد أن أدرس بالقسم الأدبي لأني أحب الأدب والشعر والفن ، ولأني لا أحب جفاف المواد العلمية ، ولكن الأسرة تصر على أن أدرس بالقسم العلمي كي أصبح طبيباً أو مهندساً كما يتمنون ، فالتحقت بالقسم العلمي حسب رغبتهم لكني لم أحضر دروسه أبداً وكنت أحضر دروس المواد الأدبية وبالطبع كنت فاشل في مواد الكيمياء والطبيعة والرياضة رغم ذكائي الشديد ، ومتفوق جداً في الأدب والنصوص والقصة والتعبير ، و جاء ميعاد امتحان الثانوية  ، كان الامتحان يوم الاثنين وقامت الحرب يوم السبت ، فتم إلغاء الامتحان ، وبعضنا تطوع وانضم للمدافعين عن البلاد ، فلبسنا الزي الرسمي ولفوا حول ذراعنا شارة حمراء عليها حرفي النون والميم اختصاراً لكلمة " نظام مدرسي "  وانتهت الحرب بالـ " وكسة " التي ضحكوا علينا وأسموها نكسة "
قاطعنا مدير الدار بدخوله فقال عم سمير : " دا مدير الدار ومراقب الهدنة ، هو جاي علشان يشوفني أنا هقول ايه ، بس انتوا بتتعاملوا مع إنسان استثنائي يعني اللي هقوله في وجود مدير الدار هو اللي هقوله في غيابه ، انا ماعنديش حاجة أخسرها "
قال لنا مدير الدار أن وقت الزيارة المسموح به اوشك على الانتهاء ولابد أن نغادر الغرفة فاعترض عم سمير و قال لنا " أرجوكم اسمعوني ، أرجوكم ما تمشوش دا انا ما صدقت انتوا فتحتوا لي نافذة على الدنيا ، اسمعوني ما تمشوش "
فطلبنا من مدير الدار أن يسمح لنا بالبقاء لنصف ساعة أخرى و واصلنا الحديث الذي استمر لأكثر من ثلاث ساعات بلا توقف .
يقول عم سمير : "  اثناء تواجدي في الجيش توفي والدي وكان له أخ في المحلة ، فاقترحوا علينا أن نبيع أملاكنا في مصر ونعود للمحلة لجمع شمل العائلة ، وبالفعل خرجت من الجيش وجدت نفسي مواطن محلاوي  ،  وكنت وقتها حاصل على شهادة الثانوية العامة لأنهم طلبوني في الجيش لظروف حرب أكتوبر   وأنا طالب في السنة الثانية في كلية  الفنون ، فبعد خروجي من الجيش تم تعييني  بالشهادة الثانوية في مجلس محلي المحلة الكبرى ، وهناك رأيت زميلتي في العمل التي أصبحت زوجتي وأم أولادي فيما بعد ، وكانت فتاة جميلة كل من يعمل معنا يتمنى رضاها ولأني كنت شاب طائش اعتبرت الموضوع تحدي وعرضت عليها الزواج فوافقت ، ولأن أهلي كانوا يريدون لي الزواج من بنت عمي أو خالي لم يوافقوا على الزواج من هذه الفتاة ، و لكنني صممت فذهبت لطلبها وحدي ! "
" في البداية رحب أهلها بي وقالوا لي اسرتنا زادت واحد و أننا ازددنا بك شرفاً ، وبعد الزواج اصبحوا يعايرونني ويقولون لي " إحنا لميناك من الشارع " ، انجبت منها توأم ولد وبنت " نزار " و " سوار " لأني أحب نزار قباني ، أسميت الولد باسمه ، وسوار اسم ذكره نزار في أكثر من قصيدة ، ثم بعد ذلك انجبنا رشيد بناءً على نصيحة أمها " اربطيه بالعيال "  ، وبعد فترة بدأت المشاكل بسبب تدخل أهلها في حياتنا ، وفي تلك الفترة كنت أواصل تعليمي لأحصل على المؤهل العالي ، وأطلب نقلي للتربية والتعليم ثم أطلب نقلي للعمل في منطقة نائية حتى أبعد بأسرتي عن المشاكل ، وقلت لزوجتي على هذه الخطة منذ البداية ، فكانت تتعمد افتعال الشجار أيام امتحاناتي حتى لا أستطيع التركيز ، ولكنني نجحت وحصلت على المؤهل العالي وطلبت نقلي مرة إلى شمال سيناء ومرة إلى جنوب سيناء ومرة إلى الوادي الجديد ، ولم يجاب طلبي مرات عديدة حتى قبلوا أخيراً نقلي إلى العريش .
فذهبت  بخطاب الموافقة لزوجتي وأخبرتها وقلت لها أن الأمر بيدك ومستقبل الأسرة بين يديك ، وتركتها لتفكر وسافرت شمال سيناء كي أستلم عملي ، وغبت حتى امتحانات نصف العام وعدت و طلبت منها أن تطلب نقل عملها لشمال سيناء فرفضت وقالت " انت حر تنقل عملك أو لا تنقله لكن انا لا " ثم غضبت و ادعت أني ضربتها و عملت لي محضر تمهيداً لأن تطلب الطلاق  "

وعلى أنغام أغنية بيت العز يا بيتنا التي انطلقت في هذه اللحظة بالذات من الراديو أخذ عم سمير يحكي لنا قصة انهيار حياته الأسرية وخلافه مع زوجته وإصرارها على الطلاق وإصراره على الاحتفاظ بها زوجة كنوع من العناد الذي اعترف أنه لو عاد به الزمان مرة ثانية لأختار أن يطلقها من أول لحظة !
وحدث الطلاق بعد شهور وسنوات من الخلاف في المحاكم واحتفظت بالأولاد وعاش هو في العريش انقطع لعمله والقراءة التي يعشقهما ، حتى أنه حصل على جائزة المعلم المثالي على مستوى الجمهورية ، وأصبح مديراً لمدرسة في شمال سيناء .

أثناء حديثنا ، دخلت العاملة بطعام الغداء وهو عبارة عن طبق أرز و طبق بيض بالطماطم ، ألقتهم على الطاولة بطريقة مستفزة ، بدون ملعقة ولا صينية ، كنت جالسة قرب الطعام ووصلتني رائحته فأصبت بالغثيان فما بالكم بمن يطلب منهم أن يأكلوا هذا الطعام ؟!!
بعد ربع ساعة تقريباً عادت العاملة مرة أخرى ، وبيدها إصبع موز واحد وعلبة زبادي و مثلثين جبنة وعرفنا أن هذه هي وجبة العشاء !

علق عم سمير قائلاً :" هذه هي الوجبة الرئيسية التي من المفروض أن تقيم أود عجوز مريض مثلي !! "

طلبنا منه مواصلة قصته فأكمل .. " اقترح علي زملائي في المدرسة أن أتزوج مرة أخرى ، ورشحوا لي عروسين الأولى لم تعجبني والثانية لم تعجبها إمكانياتي ، والثالثة تزوجتها وعشت في شقتها في القنطرة ، كانت مطلقة ولم تكن تنجب ، عانيت للمرة الثانية من تدخل أهل زوجتي في حياتنا ، وتسببوا في أكثر من مشكلة كنت في فورة غضبي بسببهم أطلقها مرة وأخرى حتى طلقتها الثلاث طلقات فاستنفذنا مرات الرسوب بلغة رجال التعليم "

"  وحاولت قبل مرور ثلاث شهور أن أردها إلا أن أهلها رفضوا فانقضت العدة وبعد انقضاء العدة لان أهلها وهي أعلنت أنها لا تزال تريدني وفكرنا في حلول كثيرة كحل المحلل ولكنها لم توافق أن تتزوج بغيري وأنا قلت لها حتى لو وافقتي على المحلل أنا لا أوافق ومن هنا جاءت فكرة أن أقيم بدار للمسنين حتى نجد حل لمشكلتنا ولم أجد دار بها أي أماكن شاغرة سوى في راس البر أقمت فيها لفترة ثم تركتها لأني لم يعجبني الوضع هناك ثم انتقلت لدار أخرى وأخيراً انتقلت لهذه الدار وهي أسوأهم على الإطلاق . "

سألنها عمن كفله كي يقيم في هذه الدار فقال لنا بمرارة : " ابني الأصغر ، دفعت له عشرة آلاف جنيه من معاشي حتى يوافق على المجيء معي و يكون مسئولاً عني أمام الدار "  .
أثناء حديثنا حاولت أكثر من قطة أن تدخل الغرفة ، فسألته هل تدخل القطط الغرف ؟؟ قال لي نعم كنت أسمح لهم من فترة أن يدخلوا لكنهم كانوا يتركوا فضلاتهم في الغرفة مما يسبب رائحة كريهة  فأصبحت أطردهم ، و لكن بعض النزلاء يسمحوا لهم بالدخول ويطعموهم أيضاً .

يتخيل العم سمير أن من ينزل بالغرفة المجاورة له يربي القطط لأنه يستخدمها في السحر والشعوذة ، وأن إدارة الدار تسرق أعضاءه بالسحر وهو جالس وحده في غرفته ، وأنهم سرقوا جزء من جبهته وأسنانه وسرقوا من طوله 15 سنتيمتراً .
ويقول لنا أنه بصدد رفع قضية على الدار باستخدام التخاطر عن بعد " التليباثي " وأنه سيطالب بتعويض قدره 40 مليون جنيه !

تركنا عم سمير بصعوبة  لأن النهار انتهى واقترب المساء وهو لا يريد أن يتوقف عن الكلام ولا يريد أن نتركه وحده لأنهم يسرقون أعضائه ويعذبونه ، وقبل أن نرحل توسل إلينا أن نعود له مرة أخرى وأن نرفع أمره لأولي الأمر وننقذه مما يعانيه .

رحلنا من الدار وقلوبنا مثقلة بالحزن والأسى ، فقد فاق ما رأيناه كل ما تخيلناه وكل ما قرأنا عنه أو شاهدناه في التليفزيون ، عالم كامل من الأسى والحزن والمرارة والدموع .. مزيج غريب يجمع بين المعتقل ومستشفى الأمراض العقلية و دار الأيتام في نفس الوقت !
لا مكان فيه للرحمة والرفق بهؤلاء الضعفاء والعجائز ، قسوة من القريب والبعيد ، وتقصير وإهمال .. الوجه القبيح للعالم كله هناك فيما يسمونه  دار السعادة للمسنين !









ليست هناك تعليقات: